أما القول بأن ذي الأوتاد وصف لكثرة
الجند، ولا يستتبع كثر
الجند
إلا كثرة الحروب واتساع المملكة، وذلك غير ثابت في حق رمسيس الثاني الذي
كانت آخر حروبه الكبيرة هي معركة قادش في السنة الخامسة من حكمه ولم يكن
النصر حليفه فيها بالرغم مما طنطن به من كتابات عن هذه المعركة على جدران
المعابد – كما أن اتساع مملكته يقل كثيراً عن الإمبراطورية التي بناها
تحتمس الثالث كما أنه بعد معركة قادش وعلى مدى 62 عاماً من حكمه لم يقم
رمسيس الثاني بضم أي أراضي جديدة، بل كانت حروبه كلها مجرد حملات لصد هجمات
الليبيين في الغرب والنوبيين في الجنوب وأرجو ألا يسارع أحد فيستنتج من
هذا أن رمسيس الثاني ليس هو فرعون موسى لعدم انطباق هذا الوصف ( ذي الأوتاد
) عليه فنحن لم نصل بعد إلى حقيقة معنى هذا الوصف. في رأي بعض أساتذة كلية
الآثار ( اتصال شخصي ) أن الأوتاد معناها الأعمدة، إلا أننا نرى أن هناك
اختلافاً كبيراً بين شكل العمود وشكل الوتد، فالعمود يتساوى قطره العلوي مع
قطره من أسفل إلا من حلقة عريضة على شكل زهرة اللوتس أو البردى تُحلّى
الطرف العلوي وأما الوتد فهو عريض في أعلاه ويقل عرضه كلما اتجهنا إلى أسفل
ولعلهم استندوا فير رأيهم هذا إلى قوله تعالى: [{ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ
وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [الأعراف: 137].[/ فكلمة
يعرشون تعني أعمدة عليها عريشة، والعريش ما يُستظل به، ولو أن العريشة تطلق
غالباً على ما هو مصنوع من خشب، وعريش الكرم ما يدعم به الكرم من خشب
ليقوم عليه ويرتفع وتسترسل أغصانه ( المعجم الوسيط جـ 2 ص 599)، إلا أنه
بشيء من التجاوز – يمكن قبول هذا التفسير وهو أن الأوتاد تعني الأعمدة. في
هذه الحالة نجد أن رمسيس الثاني كان أكثر الفراعين إقامة للأعمدة ونضرب هنا
بعض الأمثلة:
- معبد سيتي الأول في أبيدوس:
والذي أشرف عليه رمسيس الثاني على بنائه، وقد وصفه علماء الآثار بأنه لا
يتفق مع أي طراز موجود، بل أقرب ما يكون إلى مجموعة من أبنية مقدسة جمعت
دون وحدة في التخطيط أو التناسق المعماري وهو أقرب إلى معمار يقيمه طفل (
جيمس بيكي، الآثار المصرية مترجم – جـ 2 ص 164) وفعلاً كان رمسيس الثاني قد
بدأ بناءه في صباه عندما أوكل إليه والده إقامة المنشآت والمباني وهو في
سن العاشرة، ثم أكمل بناءه بعد أن تولى الحكم منفرداً، في المعبد نرى أن
المعبد به ما لا يقل عن
112 عموداً.
|
معبد سيتي الأول في أبيدوس ( أقامه رمسيس الثاني )
|
- معبد رمسيس الثاني في
أبيدوس (شكل 204) وبه 50 عموداً.[/size]
-
معبد الأقصر: الذي بدأه أمنحتب الثالث وأضاف إليه رمسيس الثاني فناءين بهما
عدد كبير من الأعمدة يصل إلى 90 عموداً ( شكل 205). - قاعة الأعمدة
بالكرنك قام رمسيس الثاني بإقامة معظمها، وبها 124 عموداً مرتبة في 16 صفاً
وتشغل مساحة 500 متراً مربعاً.
فإذا أخذنا بهذا التفسير – وهو أن الأوتاد تعني الأعمدة –
لكان رمسيس الثاني هو صاحب أكبر عدد من الأعمدة في المباني التي أقامها. ]
إلا أننا نرى أن لو كان المقصود بالأوتاد أنها الأعمدة لذكرها القرآن بذلك
فقد سبق ذكر وصف المدينة التي أقيمت في أرض عاد قوم هود بذات العماد أي ذات
الأعمدة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } [الفجر: 6-8].
فلو كان المقصود هو الأعمدة لقيل: وفرعون ذي العماد أو صاحب العماد تمشياً
مع وحدة الاسم إذا توحد المعنى. وفي أرينا أن {وَفِرْعَوْنُ
ذُو الْأَوْتَادِ } [ص: 12]. تعني فرعون
ذو المسلات، فالمسلّة هي الإبرة العظيمة ومَخيط ضخم ( لسان العرب جـ
3-2076 والقاموس المحيط جـ 3 ص 397) وإن كان جمعها في هذين المعجمين هو
مَسالّ، إلا أن جمعها مسلات لا بأس به وأسهل في النطق، ولعل العرب عندما
فتحو مصر ورأوا هذه القطع الصخرية الرفيعة البالغة الارتفاع في أون ( عين
شمس ) أو طيبة وأرادوا تسميتها اشتقوا لها اسما مما ألفوه في حياتهم
فشبهوها بالإبرة الكبيرة التي تخاط بها ركائب الغلال وسموها مِسلّة أو
اشتقاقاً من المسلّة وهي جريدة النخل الرطبة وكلاهما – الإبرة العظيمة أو
جريدة النخل – تكون أرفع بالقرب من طرفها، ويجدر بنا أن نذكر أنهم لما رأوا
معابد طيبة ظنوها قصوراً وسموا مدينة طيبة ( الأقصر) وكانت تسمية خاطئة،
ولو علما وقتها أنها معابد لسموها ( المعابد) بلداً من (الأقصر) وتبعاً
لهذا التصور الخاطئ فإنهم لما رأوا المعبد الكبير شبهوه بقصر النعمان
المسمى ( الخورنق) وتطور الاسم على مر الأزمنة إلى (الكرنك). وفي رأينا أن
تسمية هذه الأعمدة الحجرية الرفيعة والمدببة بالمسلات لم تكن كذلك تسمية
دقيقة فالمسلة الحقيقية أي الإبرة العظيمة التي شبّهوها بها قد يبلغ طولها
15-20 سم في حين أن قطرها قد لا يزيد عن 3 مم أي أن نسبة الطول إلى القطر
تكون من 50-70 مرة في حين تقل هذه النسبة في مسلات قدماء المصريين عن ذلك
كثيراً، فالمسلة المقامة في باريس يبلغ ارتفاعها 22.55 متراً بينما يبلغ
طول ضلع قاعدتها 2.5 متراً أي أن نسبة القاعدة إلى الارتفاع هي 9 مرات وفي
مسلة لندن تبلغ النسبة 7 مرات فقط وهي نسبة تقرب من نسبة أبعاد الوتد الذي
غالباً ما يكون طوله 50 سم وعرضه 7 سم عند القاعدة أي أن النسبة 7 مرات. زد
على ذلك أن المسلة أي الإبرة مستديرة ولا تكون أبداً مربعة الشكل في حين
أن الوتد لمكن صنعه من قطعة من الخشب مربعة الشكل بتهذيب طرفها، وإذا نظرنا
إلى صورة إحدى هذه المسلات مقلوبة لوجدناها أقرب ما تكون إلى شكل الوتد،
وبالمثل لو نظرنا إلى الوتد مقلوباً لوجدناه يشبه المسلة تماماً.
ولو
كان هناك أحد يعرف الهيروغليفية عند دخول العرب مصر لأخبرهم أن هذه الأعمدة
الضخمة ذات الطرف الهرمي – والذي كان يغطي بالذهب أو النحاس فيعكس أشعة
الشمس لمسافات بعيدة – كانت رمزاً لعبادة الشمس، ولقرأوا هذه الجملة على
قاعدة إحداها مخاطبة إله الشمس: (أنت تلمع في هذه الأوتاد ( أي الأعمدة )
الصخرية)، إذ أن وتد باللغة الهيروغليفية اسمه بون، ومدينة هيليوبوليس –
وهي مركز عبادة إله الشمس – تسمى أون اشتقاقاً من يون فهي مدينة الأوتاد
وهي أول مكان أقيمت فيه المسلات في مصر القديمة، كما أن مدينة طيبة (حالياً
الأقصر ) كانت ترعف بـ U.astأو Iunu Shemayit أي العمود أو الوتد الجنوبي
أو هليوبوليس الجنوب ( مسلات مصر. لبيب حبشي. ص 5-6). ولو كان العرب عند
دخولهم مصر قد سألوا اليونانيين بماذا سمُّوا هذه الإبر الصخرية العظيمة
لعلموا أنهم سموها Obeliskos بمعنى وتد وبمعنى عمود مدبب أيضاً، وعن
اليونانية أخذت اللاتينية اسمObltkos ثم Obelisque وفي الإنجليزية Obelisk.
وكان القرآن الكريم من الدقة بحيث استعمل اللفظ الصحيح وهو ( فرعون ذو
الأوتاد ) بمعنى فرعون ذو المسلات وبقي علينا أن نحدد من هو الفرعون
المقصود بهذه الصفة، ويمكننا ذلك إذا استعرضنا الفراعين وعدد المسلات التي
أقامها كل منهم وخير من كتب في هذا الموضوع هو الدكتور لبيب حبشي، وما يلي
مشتق من كتابه The Obelisks of Egyptمسلات مصر) - سنوسرت الأول: مسلتان في
هليوبوليس: إحداها لا تزال قائمة للآن وهي من الجرانيت الأحمر وارتفاعها
20.4 متراً، وبقايا الأخرى موجودة في مكانها - تحتمس الأول: أقام أول زوج
من المسلات في طيبة وهما مصنوعتان من الجرانيت الأحمر، إحداهما لا تزال
قائمة في معبد الكرنك وارتفاعها 19.5 متراً، بينما أجزاء الثانية ملقاة على
الأرض بجوار قاعدها. حتشبسوت: أقامت 4 مسلات في المعبد الكبير في الكرنك،
واحدة فقط هي التي لا تزال قائمة في مكانها وارتفاعها 29.5 متراً، وواحدة
مكسورة والجزء السفلي قائم على القاعدة، أما المسلتان الأخريان فأجزاؤهما
موجودة وملقاة على الأرض، وفي أسوان أمرت بإقامة مسلتين دُمرتا ولم يبق
منهما غير أجزاء متناثرة. - تحتمس الثالث: أقام 7 مسلات في الكرنك واثنتان
في هليوبوليس ومن المسلات التي كانت في الكرنك يوجد النصف العلوي من مسلة
في اسطنبول وواحدة في نيويورك وأخرى في لندن وواحدة بدون قاعدة موجودة في
روما. - أمنحتب الثاني: أقام مسلتين أمام المعبد الذي بناه في هليوبوليس
ومسلتين في جزيرة فيلة ارتفاع الواحدة 2.2 متر فقط إحداهما نقلت إلى بلدة
درهام في إنجلترا والأخرى موجودة بالمتحف المصري بالقاهرة. - تحتمس الرابع:
أقام مسلتين في جزيرة فيلة نقلت أجزاء من إحداها إلى المتحف المصري
بالقاهرة. - أمنحتب الثالث: بالرغم من أن رئيس العمال سجل أنه أشرف على 6
مسلات إلا أنه لم يوجد إلا قاعدة مسلتين وقُدّر ارتفاع كل مسلة بـ 19
متراً. - أمنحتب الرابع: أختانون: وكان قد بدأ عقيدته الجديدة وأمر بإزالة
أسماء الآلهة من على مسلات أسلافه، ويحتمل أنه أقام مسلة واحدة فقط لنفسه. -
حورمحب: اقام عدة مسلات صغيرة لم يبق إلا أجزاء منها. رمسيس الأول: نظراً
لقصر مدة حكمه فلم يتح له إقامة أي مسلات. - سيتي الأول: أقام مسلتين أمام
معبده. - رمسيس الثاني: حظي بنصيب الأسد في عدد المسلات التي أقامها: في
هليوبوليس: أقام 4 مسلات على الأقل ثلاث نقلت إلى روما والرابعة إلى
فلورنسا. في حطام أتريب ( بنها ) وجد حطام سلتين وقاعدتيهما وكانت أجزاء
بعض المسلات قد استعلمت في بعض المباني، ونقلت قاعدة إحدى المسلات إلى متحف
برلين والثانية موجودة بالمتحف المصري. في العاصمة بررعمسيس: توجد أجزاء
من 23 مسلة محفور عليها اسم رمسيس الثاني كانت كلها في المعبد الكبير عبارة
عن خمسة أزواج (10 مسلات) و13 مسلة فرادى وإحدى هذه المسلات كانت سليمة
وهي التي نقلت إلى القاهرة وأقيمت في جزيرة الزمالك بجوار برج القاهرة. في
طيبة: وبها أطول مسلات لرمسيس الثاني ففي الجزء الذي أضافه إلى معبد الأقصر
أقام مسلتين إحداهما نقلت إلى باريس والثانية لا تزال باقية في مكانها إلى
اليوم ولعلها هي المسلة الوحيدة المقامة في مكانها منذ عهد رمسيس الثاني
إلى اليوم، وكل من هاتين المسلتين كان يبلغ ارتفاعها 25 متراً وهي على ذلك
تعتبر من أطول المسلات وتوجد بقايا عدد من المسلات في الكرنك كلها محطمة
وتوجد قاعدة مسلتين عند البوابة الشرقية بالإضافة إلى أجزاء من مسلات أخرى.
أقام في المعبد مسلتين الشرقية عليها نقوش تُمثّل رمسيس الثاني بتعبد
إلى حوارختى) والغربية تصف الملك بأنه (محبوب آمون). ويمكن تلخيص ما سبق
بالآتي: سنوسرت الأول: 2 مسلة. تحتمس الأول: 2 مسلة حتشبسوت : 6 مسلات.
تحتمس الثالث : 9 مسلات. أمنحتب الثالث: 2 أو 6 مسلات. أختانون : واحدة أو
لا شيء. حور محب : مسلات صغير. رمسيس الأول : لا شيء. سيتي الأول: 2 مسلة.
رمسيس الثاني: 25 مسلة على الأقل. وهكذا نجد أن عدد المسلات التي أقيمت قبل
عصر رمسيس الثاني تبلغ حوالي 30 مسلة بواقع 3 مسلات في المتوسط لكل فرعون
في حين أن رمسيس الثاني وحده أقام ما لا يقل عن 35 مسلة، وكما سبق أن
أوضحنا أن الاسم الصحيح الذي كان من الواجب إطلاقه على هذه الأعمدة الصخرية
هو لفظ ( وتد ) بدلاً من ( مسلة) ويتضح لنا أن رمسيس الثاني هو صاحب أكبر
عدد من الأوتاد وبذلك ينطبق عليه الوصف الذي أطلقه القرآن الكريم على فرعون
موسى: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ص: 12].. وهذا يضيف برهاناً آخر على أن رمسيس الثاني هو
فرعون موسى
الي اللقاء في الجزء الرابع